توتر أم إمكانيات محدودة.. لماذا يُمرِّر محمد الننّي إلى الخلف؟
حسنا، لدينا الكثير لنُخبرك به، لذا سنبدأ على الفور، وأول ما سنفعله هو أن نستفزك -كالعادة- بالقول إن محمد الننّي لا يُمرِّر إلى الخلف. ليس بالدرجة التي تتخيلها على الأقل، وليس بالمعنى الدارج للتمرير إلى الخلف؛ الأمر أعقد قليلا من مجرد سهم على خريطة للملعب.
لماذا نستفزك؟ لماذا يعتقد الجميع أنك قد أُصبت بالعمى؟ لماذا يُصِرُّ مُدَّعو الحنكة على هدم كل ما تعتبره بديهيات؟ متى أصبحت كرة القدم بهذا التعقيد؟ هذا ما نعدك بالإجابة عنه.
مَسَحات سلبية
دعنا أولا نخبرك أنه لا تعارض بين كل ما سبق؛ الضيق الذي تُسبِّبه لك تمريرات محمد الننّي مُبرَّر فعلا، والأمر أعقد من مجرد اتجاه للتمريرة فعلا، وفي الوقت ذاته، الننّي لا يُمرِّر إلى الخلف للدرجة التي تتخيلها فعلا. كل ما سبق صحيح.
رقميا، يمتلك محمد الننّي نسبة عالية جدا للتمريرات الأمامية من إجمالي تمريراته، ودعنا نستدرك بأن "أمامية" لا تعني "عمودية" بالضرورة، ولكن في المباراة النهائية ضد السنغال مثلا، أطلق لاعب المحور المصري 27 تمريرة أمامية من أصل 40 إجمالا، و32 من 48 أمام الكاميرون، و30 من 51 أمام ساحل العاج، وجاء أكثر هذه التمريرات -باستثناء مباراة ساحل العاج- في نصف ملعب المنتخب المصري وحول دائرة الوسط، وبينما تتراوح نسبة تمريراته الأمامية ما بين 59-68% -نسبة مرتفعة جدا للاعبي هذا المركز- فإن صيحات الاستهجان التي ضجَّت بها مقاهي مصر كلما مرَّر محمد الننّي كانت ترى ما خلف الإحصائيات. لذلك أخبرناك أن الأمر أعقد من مجرد سهم يُشير إلى الأمام على خريطة الملعب.
أحد أوضح الأمثلة على ذلك أتى في مباراة الكاميرون، فعادة عندما يُنتقد لاعب ما لأنه يُمرِّر للخلف دائما، فإن أول ما يراجعه المختصون في الأداء هو نشاطه الاستكشافي (Exploratory Behavior)، والمقصود به المرات التي ينظر فيها اللاعب خارج مجال بصره الطبيعي قبل استلام الكرة، ليُدرك محيطه وخيارات التمرير المتاحة له، ويجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن سياق اللعبة قبل أن يتصرَّف بالكرة. تسهيلا، يُطلِق مُحلِّلو الأداء على هذا النشاط اسم "Pitch Scans" أو مسحات الملعب البصرية. (1) (2)
The best football players have great awareness of their surroundings, even before receiving the ball. I started studying SCANNING in 1997. Since then, we have filmed & analyzed more than 250 professional players and 200 elite youth players. What have we learned? Thread 1/15. pic.twitter.com/sO3AugCmP9
— Geir Jordet (@GeirJordet) October 14, 2021
هذا هو السر الذي جعل أمثال بيرلو وتشافي وإنييستا وميسي وألونسو ومودريتش وكيميتش ولامبارد يسبقون خصومهم بخطوة واحدة على الأقل كلما تسلموا الكرة؛ أنهم يقضون الثواني الثمينة التي تسبق استلام الكرة في مشاهدة واستيعاب السياق المحيط ومحاولة البحث عن إجابات: كم عدد لاعبي الخصم في هذه المساحة؟ أيٌّ من زملائه يتعرَّض للضغط ولا يصح التمرير له؟ ما المسافة بينه وبين أقرب لاعب من الخصم؟ وهل توحي وضعية جسده بأنه سيتحرَّك للضغط عليه بمجرد استلامه أم لا؟ معلومات تتضح قيمتها بمجرد استلام الكرة.
هل عثرنا على الإجابة إذن؟ هل تقع مشكلة الننّي في كونه لا يقوم بهذه المسحات بالعدد الكافي؟ ليس بالضبط، مشكلة الننّي تنقسم إلى جزئيتين؛ الأولى أنه يقوم بهذه المسحات طوال الوقت، ولكن أغلبها يحدث في المواقف الآمنة، أي المواقف التي يستحيل فيها نظريا أن يكون الننّي خيار تمرير مباشر، أو المواقف الدفاعية عندما تكون الكرة بحوزة الخصم.
هذا ينقلنا إلى السؤال التالي المنطقي؛ أي لاعب يمكنه النظر حوله بسهولة لو لم يكن جزءا من اللعبة، ماذا عن العكس؟ العكس هو عندما تحدث المشكلة، والعكس هو ما يجعل الننّي هدفا سهلا للانتقادات مع كل مباراة جديدة للمنتخب المصري أو أرسنال، فمع مواقف الاستلام تحت ضغط، والحاجة إلى التصرُّف بدقة وسرعة، تظهر عيوب الننّي الأساسية.
في المقطع التالي مثلا يظهر العيب الأول؛ لتسع ثوانٍ، يتحرَّك الننّي لحامل الكرة بوصفه خيار التمرير الوحيد، ولتسع ثوانٍ، يعجز النني عن مسح ما يقع خلفه أو بجانبه، وبالتالي لا يكتشف الثغرة الواضحة في نمط ضغط الكاميرون، والمساحات الواسعة خلف ظهره، وبالتالي يُعيد الكرة إلى حيث أتت رغم صعوبة موقف فتوح على الخط، الذي لا يجد حلا سوى إعادتها إلى الننّي مرة أخرى، وحينها فقط يرفع الننّي عينه للمرة الأولى ليكتشف أنه كان بإمكانه الدوران والتمرير لمحمد عبد المنعم من المرة الأولى، وهو ما كان ليكسر ضغط الكاميرون ويضع زملاءه في موقف أفضلية حقيقية، ولكنه يكتشف أيضا أن الوقت قد فاته بسبب تحرُّك فنسنت أبو بكر وإغلاقه لمسار التمرير، فيُقرِّر إعادة الكرة إلى الخلف، ومن ثم يُعيد لاعبو الكاميرون تنظيم صفوفهم بغلق زوايا التمرير وتختفي الثغرة.
El Neny scanning issue (1) pic.twitter.com/4aCl8V4lVr
— Peak x2 (@STactics3) February 8, 2022
العيب الثاني يظهر بعد تلك اللعبة بدقائق؛ رمية تماس أخرى للكاميرون والننّي ليس في وضعية تؤهِّله للاشتراك في اللمسة الأولى، بالتالي يُنفِّذ الكثير من المسحات في اتجاهات مختلفة، وبمجرد لعب رمية التماس يتوقَّف الننّي عن استكشاف ما حوله لخمس أو ست ثوانٍ كاملة، وبالتالي عندما ينجح ضغط عمر كمال في استخلاص الكرة، وبمجرد وصولها إلى الننّي، يتخذ أسوأ قرار ممكن بإعادة الكرة إلى الخلف وتوريط محمد عبد المنعم على الخط، الذي يتصرَّف بشكل أفضل بكثير من زميله، مُتخلِّصا من رقيبه بالتمويه ثم إطلاق تمريرة طولية تُنهي الموقف.
El Neny scanning a lot with no better decisions, that reflects a lot about his habits and cognitive capacity levels, especially under pressure pic.twitter.com/7GQ0o92YYA
— Peak x2 (@STactics3) February 8, 2022
هروب اضطراري
هذه اللقطات تخطف العين لأنها الأكثر تأثيرا؛ عندما تظهر مساحة خالية وخيارات تمرير واضحة تسمح بالخروج من المآزق المشابهة، فإن المشاهدين والمحللين يتوقَّعون من لاعب الوسط استغلالها، وهو ما يفشل فيه الننّي دائما تحت الضغط، ولهذا تَعْلَق هذه المشاهد بالأذهان دونا عن غيرها؛ ببساطة لأنها المواقف التي تُصنع فيها أكبر أفضلية ممكنة إن تمكَّن اللاعب من التعامل معها بفاعلية.
المشكلة إذن ليست في كون الننّي يُمرِّر للخلف طوال الوقت، بل في كونه يُمرِّر للخلف في مواقف محددة تحرم فريقه من تحقيق التفوُّق النوعي أو التكتيكي في الفرص المواتية، فهو إما يعجز عن تنفيذ المسحات البصرية من الأصل، أو يُنفِّذها بجودة متواضعة لا تنعكس على قراراته بعدها، وكأنها لم تكن.
في الواقع، كثيرا ما ينجح الننّي في الهروب من الضغط بطريقة أخرى؛ بأن يهبط لمساحات بعيدة عن لاعبي الخصم أو يخرج للأطراف ليتمكَّن من استلام الكرة بأريحية، ومن ثم الدوران وإجراء هذه المسحات في اتجاه مرمى الخصم دون قلق، وهو ما يُفسِّر نجاحه في إكمال عدد كبير نسبيا من التمريرات الأمامية رغم العيوب السابقة.
ما سبق يمكن تلخيصه في فكرة واحدة تضعنا على أول طريق الإجابة؛ مشكلة الننّي ليست في عدد التمريرات الأمامية أو نسبتها، وكذلك ليست في جودة التمرير ذاتها، بمعنى قدرته على إيجاد زميل حر وتوصيل الكرة بدقة إلى قدميه، بل في استسلامه لآمن وأسهل الحلول تحت الضغط، وهذا راجع بالأساس إلى عجزه عن مسح الملعب في مثل هذه المواقف، أو قلة المعلومات المستخلَصة من هذه المسحات إن تمت، وهو ما يُفسِّر -بالتبعية- إجادته كلما وقعت اللعبة في نطاق بصره المباشر.
هذه ليست مشكلة هينة بالطبع، بل ربما تُفسِّر رغبة مدربي أرسنال المتتابعين في استبعاده من التشكيل والمحاولات الدائمة لإعارته أو بيعه، ولكن الجدير بالذكر هنا أن الننّي، رغم عيوبه، هو أفضل خيارات المنتخب المصري المتاحة في هذا المركز، إذ يُعاني حمدي فتحي، رفيقه في المحور، من مشكلات أكبر بالكرة، وخاصة في مراحل بناء اللعب والخروج بالهجمة، وهو ما يدفع كيروش إلى تجنُّب الاعتماد عليه في هذه المرحلة من الأصل، ولذلك لا يتلقى فتحي الانتقادات ذاتها، بالإضافة إلى أنه يمد الجماهير بتيار مستمر من التدخُّلات الحَرِجة، التي تُعَدُّ الوظيفة الأهم للاعب الارتكاز في الثقافة الكروية الشعبية، على عكس الننّي الذي يعمد إلى تغطية المساحات ومسارات التمرير.
التفسير لتصرفات الننّي تحت الضغط يقع في نطاقين؛ الأول نفسي، إذ إن القلق من ارتكاب الأخطاء يدفع اللاعب إلى تثبيت عينيه على الكرة طوال الوقت، خوفا من أن تُمرَّر له أو يقطعها الخصم أثناء محاولته النظر خلفه مثلا، والنتيجة أنه يتسلمها دون إدراك خياراته المتاحة للتصرُّف، وبالتالي يرتكب الأخطاء ذاتها التي يحاول تجنُّبها ابتداء، في متوالية تُفقده ثقته بنفسه.
في حالة الننّي تحديدا، قد يكون سبب هذا القلق خبرات سيئة سابقة في مواقف مشابهة، أو تعرُّضه لانتقادات مبالغ فيها من الجماهير كلما أساء التصرُّف، أو افتقاده للثقة كونه أحد القلائل الذين لا يمتلكون ظهيرا شعبيا حقيقيا لأنه لم يلعب للأهلي أو الزمالك من قبل، وقد يكون سببا آخر، ولكن التوتر والضغط النفسي هما جزء من الأمر بلا شك.
التفسير الثاني يقع في نطاق علم الأعصاب؛ فرع المعرفة الوحيد الذي يُفسِّر سوء قرارات الننّي حتى بعد تنفيذ المسحات البصرية، فالنظر وحده لا يكفي، والأهم هو جودة هذه المسحات وقدرتها على استيعاب أكبر كمٍّ ممكن من الملاحظات ومعالجتها، ومن ثم اتخاذ القرار الأفضل.
الآن تراني
عموما، يتسع مجال الإبصار للعين الواحدة بمقدار 120 درجة تقريبا، وهذا يجعل مجال الإبصار المتصل للعينين معا أكبر من هذه الزاوية، ولكن السؤال دائما ما يقع في جودة الإبصار، لا زاويته، إذ إن زاوية الإبصار المباشر الواضحة لا تتجاوز 20 درجة في أفضل الأحوال، وكل ما يقع خارج هذا النطاق يُعرف باسم "Peripheral Vision"، أو مجال الإبصار المحيطي بالترجمة الحرفية، وكما هو متوقَّع، فإن جودة الإبصار تقل كلما ابتعدت عن المركز. (3)
ما علاقة ذلك بالننّي وكأس الأمم الأفريقية ومواقف الاستلام تحت ضغط؟ في السنوات الأخيرة دخل علماء الأعصاب في مساحة تطوير أداء لاعبي كرة القدم، وتحديدا اتساع وجودة مجال الإبصار، وهو ما يساعد لاعبي كرة القدم، وتحديدا لاعبي الوسط، في إدراك محيطهم البصري إدراكا أفضل، والتقاط تفاصيله ومسافاته بسرعة في أجزاء من الثانية، وبالتالي منح أمخاخهم فرصة أفضل لمعالجة المعلومات المستخلَصة والتصرُّف على أساسها. هذا هو ما جعل تدريبات مجال الإبصار جزءا مهما من علم التدريب الحالي.
الألماني دانييل ميمرت، بروفيسور الأعصاب بجامعة كولن، نجح بمساعدة فريقه في تصميم عدد من التدريبات لتحسين الإبصار المحيطي عند لاعبي كرة القدم، ورفع قدرة المخ على إدراك تفاصيل ما يقع على حدود البصر، والحيلة في هذه التدريبات بسيطة للغاية، وتُمارَس بأدوات بدائية في أجواء خالية من التوتر والضغط، بهدف تعزيز الصلة بين المخ ومحيط الإبصار، الصلة التي يسترجعها المخ تلقائيا في مواقف الضغط اللاحقة ليستدعي التصرفات السليمة من الذاكرة بسهولة. (4)
في المقطع التالي، يظهر أحد هذه التدريبات، وهو يتضمَّن تنطيط الكرة بالقدمين أو اليدين مع النظر إلى الأمام، وهذا يضع حركة الكرة في محيط مجال الإبصار بدلا من المركز، ويُعوِّد المخ تدريجيا على إدراك أفضل لما يحدث فيه.
هناك تدريبات أخرى تُجبر اللاعب على تنفيذ المسحات البصرية تحت ضغط مستمر، مثل تدريب آلة الفوتبوناوت (Footbonaut) الألمانية التي يستخدمها دورتموند منذ سنوات، ويُنسب لها الفضل في هدف غوتزه على الأرجنتين في نهائي مونديال 2014؛ آلة تُطلِق الكرات المتتالية من اتجاهات متعددة غير معروفة سابقا، ثم تمنح اللاعب إشارة ضوئية أو صوتية لتسديدها أو تمريرها في اتجاه مغاير بدقة وسرعة. (5)
في الواقع، التدريبات المشابهة كانت السبب في استعادة ترنت ألكسندر آرنولد، ظهير ليفربول، لمستواه بعد بداية سيئة للموسم الماضي، فمن ضمن اتفاقية التعاقد مع نبي كيتا من لايبزيغ، كان يمكن للاعبي ليفربول إرسال لاعبيهم للتدرُّب تحت قيادة دانييل ليبي طبيب العيون بجامعة هارفارد، وفيما سُمي بمشروع "رؤية ترنت" (Trent’s Vision)، تلقَّى الظهير الإنجليزي أسابيع من الاختبارات المشابهة لتحسين قدرة بصره على التنقل بين المدى البعيد والقريب، وتتبع الأهداف المتعددة المتحركة، وكلها تدريبات متاحة للاعبي كرة القدم في أغلب أندية أوروبا الكبيرة. (6) (7)
حسنا، ماذا لو كنا نتحدَّث عن نادٍ عربي أو أفريقي لا يملك الإمكانيات المادية لشراء آلة ثمنها ملايين الجنيهات الإسترلينية أو التعاقد مع طبيب عيون من هارفارد؟ بالإضافة إلى تدريبات ميمرت، فهناك بضعة تدريبات يمكن تنفيذها باستخدام أدوات بدائية للغاية، أحدها يقترحه موقع "You Coach" باستخدام ثلاثة لاعبين وشارتَيْ تدريب فقط لا غير، على النحو التالي؛ يُمرِّر لاعبان الكرة فيما بينهما بينما يقوم الثالث بالركض من الشارة الأولى إلى الثانية في مسار عمودي على مسار التمريرة ثم يعود، وبمجرد عودته يتحرَّك لأخذ مكان أحد اللاعبين ليستبدله الآخر في الركض بين الشارتين، وهكذا. هذا التدريب يُعوِّد المُمرِّرين على توقُّع لحظة دخول اللاعب الثالث من الجنب، ويُجبرهما على متابعة ما يحدث في محيط الإبصار الجانبي والتأقلم معه. (8)
تدريب آخر يظهر في المقطع التالي باستخدام أربعة لاعبين وأربع كرات ومساحة مستطيلة من الملعب، ينطلق فيها كل لاعب بالكرة من ركن المستطيل على أن يتقابلا في المنتصف ويكمل كلٌّ منهما طريقه دون أن يصطدم بالآخر، وهذا يستدعي متابعة مسارات الباقين الذين يتحرَّكون أمامه وعلى الجانبين، للهدف السابق نفسه.
لوسي
الآن تفهم الفكرة، وبقليل من التأمل تدرك أنها أبسط مما تتخيل؛ هل تنظر مباشرة إلى مقبض الباب أثناء فتحه؟ هل تنظر إلى قدميك أثناء المشي؟ ألم تتوقف عن النظر إلى لوحة المفاتيح بعد فترة من الكتابة على هاتفك الذكي الأول؟ كل هذا أصبح يتم في محيط مركز بصرك، ولكنك تفعله بكفاءة وبأخطاء نادرة لمجرد أنك اعتدته، وإن كان بإمكان الننّي أو غيره الكتابة على لوحة مفاتيح لا تتجاوز المسافة بين حروفها ملّيمترا أو اثنين دون أن ينظر إليها مباشرة، فهو بالتأكيد يستطيع فعل أي شيء آخر مُشابه.
تُعَدُّ مجموعة ريد بول النمساوية المالكة لأندية لايبزيغ وسالزبورغ وغيرها هي أحد أهم الرواد في هذا المجال حاليا، والمختصون هناك يقولون إنه صار على لاعبي كرة القدم أن يُعاملوا أعينهم مثلما يُعاملون عضلاتهم بالضبط؛ بالتدريب المستمر والحفاظ على حِدَّة الصلة ما بين المخ والعين والعضلات. (9)
إحدى أهم النصائح التي يُقدِّمها مُتخصِّصو ريد بول للاعبي كرة القدم هي إجراء اختبار الخِلّة والقَشّة (Toothpick & Straw) باستمرار، وهو يتضمَّن أن تُركِّز بصرك على هدف ما -أي هدف- ثم تضع كوبا على حدود مجال بصرك، وبداخله تضع قَشَّة أو شفّاطة، ثم تحاول إسقاط خلة أسنان بداخلها أثناء النظر إلى الهدف المركزي، وكلما نجحت بسرعة كان هذا دليلا على حِدَّة إبصارك المحيطي.
في أحد البرامج الإذاعية في 2018، تحدَّث غاري نيفيل عن غايل ستيفنسون، وهي مُتخصِّصة تعاقد معها سير أليكس فيرغسون لتدريب عيون اللاعبين لعقدين كاملين أثناء ولايته التدريبية، وفي 2017، اكتشف الباحثون في جامعة جون مورز بليفربول أن أفضل المدافعين هم هؤلاء الذين يستطيعون التنقل بسرعة ما بين مركز الإبصار البعيد والقريب (10) (11)، أو ما يُعرف بـ "Near-Far Quickness".
هناك أيضا عدد من التطبيقات الذكية المُصمَّمة خصيصا لتدريب العين على مهارات الإبصار المختلفة، وإن لم يكن كل هذا متاحا فإن الكثير من الدراسات تعتقد أن ممارسة تنس الطاولة تساعد بشكل ملموس على تحسين جودة الإبصار المحيطي، وتساعد في تسريع ردود الأفعال والتوافق العضلي الذهني بين العين واليدين، بل إن تنس الطاولة قد يكون أكثر الطرق فاعلية في هذا الصدد، إذ لا يشعر اللاعب بأنه يتدرَّب فعليا أثناء ممارسته. (9)
هل يكفي كل ذلك للإجابة عن السؤال؟ ربما. ما نعرفه أن الننّي يُصاب بالقلق في مواقف الضغط، ويحاول الهروب منها كلما أمكن، وما نعرفه أيضا أن بصره ليس متطورا بما يكفي، وأن المشكلة مزيج بين التوتر من جانب ومحدودية الإمكانيات من جانب آخر.
رغم ذلك كله، فإننا لن نكون مُنصفين إن قرَّرنا تحميل الننّي المسؤولية وحده، فمثل هذه المعرفة لم تتوافر له أثناء تكوُّنه في فِرَق الناشئين في نادي "المقاولون العرب"، ولم يحتك بها إلا في وقت لاحق في مسيرته بعد الخروج لأوروبا، وهي قطعا ليست متاحة لـ 100% من لاعبي كرة القدم في مصر، وهو ما يجعل الموهوبين منهم أكثر قيمة.
في فيلم "لوسي"، يعجز مورغان فريمان -بروفيسور نورمان- عن تخيُّل ما قد يُحقِّقه الإنسان لو نجح في استغلال سعة مخه الكاملة، وفي الواقع، طرحت الكرة الأوروبية السؤال ذاته على العين وبدأت في استكشاف الإجابة بالفعل. نتمنى أن تتغير الأمور سريعا قبل أن يتحوَّل لاعبونا إلى عميان بالمقارنة مع أقرانهم. (12)
—————————————————————————