فيلم الأصليين.. في المزرعة الكل تحت السيطرة
في عام 2005 أسرّ لي صديقي المسؤول الكبير في اتحاد الإذاعة والتلفزيون محذّرًا: “خلّي بالك كل حاجة بتتسجّل”.لم تكن مفاجأة كبيرة لي إذ كنت أعلم علاقاته مع أجهزة الأمن، خاصة جهاز أمن الدولة، وفكرة التسجيلات نفسها متواترة، وأشار إليها الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل حينما عرض عليه أشرف مروان -حسب رواية هيكل- جهازًا يسجّل كل المحادثات لـ 50 خطًّا تليفونيًّا في محيط 5 كيلومترات، ورفض هيكل هدية مروان.
“لقد أصبحت كل مكالمات المصريين على الهواء”، هكذا قال زميلي المسؤول منذ أكثر من 15 عامًا، لذا فليس من المستغرب تلك التسريبات التي نسمعها من حين لآخر عن مكالمات تليفونية تدور في غرف مغلقة بين مسؤولين أو غير مسؤولين. ربما السؤال الملح: لماذا ليست بالصوت والصورة؟ هل لا يوجد تسجيلات صوت وصورة مثلًا؟
في عام 2017 أنتجت السينما المصرية فيلمًا بعنوان (الأصليين) قصة وسيناريو وحوار أحمد مراد، وإخراج مروان حامد، والبطولة لخالد الصاوي وماجد الكدواني.تبدأ أحداث الفيلم بمواطن مصري مسالم جدًّا يعمل في بنك يُفصل منه بلا سبب (لا بد من قطع عيشه لنتمكن من السيطرة بحسب خطط أجهزة الأمن). وفي مساء الليلة ذاتها يصل إليه هاتف محمول عليه تفاصيل حياته بالصوت والصورة في كل مكان: داخل منزله، عمله السابق، طفولته، شبابه، كل حياته مسجّلة بالصوت والصورة.
تتطور أحداث الفيلم لنجد أن هناك جهازًا يقوم بمراقبته يمثله أحد أفراده (خالد الصاوي) الذي يقدّم نفسه على أنه من حراس الوطن إذ هو يراقب كل الناس حتى لا تحدث هزات وأزمات في الوطن. وحين يسأله المواطن عن عدد الذين تجري مراقبتهم يجيبه بأنهم النسبة الفاعلة في المجتمع (نحو 60% من الشعب)، وهم يستخدمون جزءًا من الناس في المراقبة إضافة إلى الأجهزة. ويصبح المطلوب من المواطن المفصول من عمله أن يعمل في مكان ما في مدينة بدا أنها فخمة جدًّا كمراقب للخطِرين على الوطن (من وجهة نظر الأمن)، وهم المحبَطون الذين لا يحققون أهدافهم.
يبدأ سمير (بطل الفيلم) عمله ليكتشف أن الجميع مراقب وتحت السيطرة، فمن خلال جهاز التليفون كل شيء على الشاشات أمامه، لأن وجهة نظر رجل الجهاز أنه لا بد من وضع الجميع تحت السيطرة (فالكل داخل مزرعة الدواجن.. داجن) حتى لا تفاجئنا الأحداث.
يكتشف سمير من خلال الهدف المطلوب مراقبته أن هناك عملية شراء لشيء من داخل مقبرة فرعونية (يظن في البداية أنها آثار ثم يكتشف بعد ذلك أنها بذور زهرة اللوتس)، وحين يقدّم تقريره يُفاجَأ بأن تهريب الآثار ليس مهمًّا في حد ذاته، لكن أهم شيء بالنسبة للأجهزة هو إحباط محاولات التغيير الواقع، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، أمّا الآثار فالخارج يصونها أكثر من المصريين! (هكذا يقول مسؤول التجنيد بالأمن).
رجل الجهاز يمسك بكل شيء في الوطن، ويصاحب سمير في كل لقاء إلى مكان مختلف، فلقاء في المساجد والمنشدون يعرفونه جيّدًا، في إشارة مهمة لأصحاب الطرق الصوفية الذين هم من وجهة نظره “أصليون” في الوطن.وفي ليلة أخرى يصحبه إلى احتفال بمولد السيدة العذراء ويبدو واضحًا التعامل هناك بحميمية، فهناك الشحاذون وماسحو الأحذية، والكل يراقب الكل، فهم أيضًا (أصليون) حماة الوطن (عيون بهيّة) الذين أصبح (سمير) واحدًا منهم.
يقترب سمير من البطلة (منة شلبي) ويُبدي إعجابه بها، وحينها يصدمه رجل الجهاز ويطلب منه أن يتعرف على حقيقة أقرب الناس إليه زوجته وأولاده، لأن “قابيل لم يكن يعرف هابيل رغم أنه أخوه وقتله، وأيضًا فرعون لم يكن يعرف موسى رغم أنه ربّاه في منزله”.وتحدث المفاجأة لدي البطل، ليكتشف أنه لا يعرف أولاده، وتبدو حياته كأنها جديدة عليه، فيراقبهم جميعًا على شاشات المراقبة، وتُهدم حياته التي كان يظنها مستقرة.
يتلقى اتصالًا من تليفون آخر، لنكتشف من خلال الفيلم أن هناك جهازًا أمنيًّا آخر يراقب الجهاز الأول ويعرف مدى إجادته لعمله.وهكذا.. دوائر حول دوائر، قد يأتي على دائرة لحظة تكشف دائرة أخرى (ربما في هذا سر التسريبات)، والجميع يخدم في النهاية بقاء الأوضاع كما هي، وإذا حدث عكس ذلك فمهمتهم هي إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي.
يطرح الفيلم -من خلال البطلة الباحثة في التاريخ الفرعوني- قصة الحضارة المصرية والضمير والقانون الذي جعل المصريين يقودون العلم والعالم قديمًا، وسر قانون العدالة (قانون ماعت) وبنوده الثلاثين، والبحث عن طرق العودة إلى العدل والحرية والكرامة، وما تعرضت له الحضارة المصرية التي هدمها الجيش الروماني حين احتل مصر، وهذا سر المراقبة التي تتعرض لها.
يحاول البطل التمرد على ما أصبح فيه، ويترك كل شيء، ويذهب إلى الواحات لكي يبدأ حياة جديدة تعتمد على الطبيعة، وليتخلص من الأجهزة الحديثة التي تراقب الجميع، وفي اللحظة التي يمسك بها جهازًا بعد سنوات يكون رجل الجهاز معه، فلا أحد يستطيع الخروج من المزرعة (مزرعة الدواجن.. كل ما هو مسيطر عليه!).
الفيلم الذي أنتِج منذ خمس سنوات يقول لنا: إننا مراقَبون جميعًا، وهذا يطرح طريقين، إمّا الخلاص أو الاستكانة، فالاختيار دائمًا للإنسان. ليس المطلوب من فيلم سينمائي أو كاتب أو مخرج أن يقود حركة تغيير، إنما مهمة الإبداع التنوير، وعلينا تحديد المصير.
أخيرًا، بعد ما أثير مؤخرًا عقب التسريبات التي نُشرت لمسؤولين قيل إنهم من داخل مؤسسة الرئاسة المصرية، وما يشير فيلم (الأصليين) إليه، هل يمكن أن نشاهد قريبًا تسريبات فيديو (صوت وصورة)؟أعتقد أن هناك بالفعل مثل هذه التسريبات، وقد تُستخدم يومًا ما، فالتسجيلات تتم من زمن بعيد في كل أماكن ودول السيطرة، وجزء كبير من سيطرة دول عظمي على مثل دولنا ومقدراتها وتوجهاتها نتاج لتسجيلات تمّت، وتجري دائمًا على مراكز القيادة في الدول المنكوبة بديكتاتورياتها، فلا مفاجآت في تسريبات بالصوت، صورة آجلًا أو عاجلًا.